مأزق الديمقراطية- أسئلة عالمية وحيرة متجددة بين الشرق والغرب

المؤلف: نبيل البكيري09.14.2025
مأزق الديمقراطية- أسئلة عالمية وحيرة متجددة بين الشرق والغرب

إن قضية الديمقراطية، سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية، تظل باستمرار السؤال الأهم ومحط جدل لا ينتهي في كل منعطف سياسي وتداعياته على الصعيد العالمي. فعلى الرغم مما قدمته الديمقراطية من إنجازات، لا تزال تثير الشكوك والتساؤلات بين الفينة والأخرى، وتستدعي مزيدًا من البحث والتحليل.

هناك من يرى أن الديمقراطية، بالصورة التي وصلت إليها اليوم، لم تعد الخيار الأمثل لتحقيق رضا الناس وتلبية تطلعاتهم كآلية لتنظيم السياسة والمجتمع. وذلك بسبب النتائج السلبية التي أسفرت عنها في بعض الدول، والتي تمثلت في صعود اليمين المتطرف الذي يسعى لاستغلال الديمقراطية كأداة لتدمير المكاسب التي حققتها الحداثة السياسية للبشرية، مثل التعددية وحقوق الإنسان والكرامة.

بينما يرى فريق آخر في الديمقراطية مجرد وسيلة لتركيز السلطة والنفوذ والثروة في أيدي النخب البرجوازية، كما هو الحال في الديمقراطية الأمريكية، حيث تدور صراعات محمومة بين مراكز المال وجماعات الضغط التي تمثل مصالح الأثرياء والتجار. وهذا يحول الديمقراطية إلى أداة لإعادة تدوير النفوذ والثروة بين أصحاب النفوذ والبيوتات الثرية ونخب الغنى الفاحش، كما نشاهد في ديمقراطية ترامب وماسك اليوم.

وكما أن للفقراء مخاوفهم وهواجسهم من النظام الديمقراطي، فإن للطبقة البرجوازية مخاوفها أيضًا. فقد أشار المؤرخ الفرنسي بيار رونز فالون، المتخصص في تاريخ الديمقراطية، مبكرًا إلى مخاوف البرجوازية الفرنسية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي عارضت بشدة منح حق الانتخاب والمشاركة السياسية للجميع، خشية من أن يمتلئ البرلمان بالفقراء الذين سيصوت لهم الفقراء الذين يشكلون الأغلبية في أي مجتمع. وذلك بافتراض وجود علاقة مباشرة بين الفقر والشعبوية، وهو أمر قد لا يكون صحيحًا دائمًا، فأوروبا اليوم، على الرغم من ثرائها الفاحش، هي أيضًا مهد الشعبوية والصوت الأعلى لها.

إضافة إلى ذلك، تثار تساؤلات ملحة حول مدى إيمان الغرب الحقيقي بالديمقراطية، وذلك في ظل مواقفه غير الأخلاقية تجاه ما يحدث في العالم الثالث، وتورطه الفاضح في دعم الأنظمة الشمولية والانقلابية، وسعيه الدؤوب لإفشال أي تجربة ديمقراطية ناشئة في العالم النامي.

إن هذه الازدواجية في المعايير تقوض مصداقية الغرب وتثير الشكوك حول حقيقة إيمانه بالديمقراطية، وتجعله يبدو وكأنه يؤمن فقط بنسخة خاصة به من الديمقراطية، وهي الديمقراطية الداخلية التي تمثل واجهة أنيقة تخفي وراءها نزعات استعمارية متوحشة واستبدادًا سافرًا خارج حدوده الجغرافية.

هذه المخاوف المتزايدة تقود إلى نقاشات معمقة وجادة بين النخب العلمية والأكاديمية والسياسية والثقافية المنخرطة في قضايا مجتمعاتها، حول المأزق الحقيقي الذي تواجهه الديمقراطية ومستقبلها الغامض، والتهديدات التي تحدق بها اليوم، خاصة من قبل الغرب نفسه، الذي يعتبر الموطن الأول للديمقراطية، وفقًا لرأي جون كين، فيلسوف الديمقراطية البارز ومؤلف كتابي "تاريخ موجز للديمقراطية" و"حياة الديمقراطية وموتها".

تتفاقم المخاوف اليوم في ظل التراجع الملحوظ في مساحات الحرية، حيث بات من الواضح أن الديمقراطية أصبحت محاصرة، حتى في الغرب نفسه، الذي طالما قدم نفسه على مدى عقود طويلة كحامي الديمقراطية وحارسها الأمين.

إلا أن ما نشهده اليوم في الغرب يناقض ذلك تمامًا، فخلال العقد الماضي، ومع تصاعد موجات الربيع العربي الديمقراطي، رأينا كيف انحاز الغرب الديمقراطي إلى الثورات المضادة، وساهم بشكل فعال في إجهاض ثورات الربيع العربي الديمقراطي، ووقف ضدها منذ اللحظة الأولى.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد كشفت حرب غزة الراهنة، وما تعرضت له المدينة وشعبها من تدمير وإبادة جماعية، الوجه الغربي الاستبدادي المتناقض، حيث وقف الغرب بقوة ضد المعارضين لهذه الحرب، فزج بهم في السجون، وفصلهم من جامعاتهم ووظائفهم، ومارس شتى أنواع القمع ضد كل من اعترض على الحرب الإسرائيلية على غزة.

بالعودة إلى صلب موضوعنا، وهو الجدل المتجدد حول مأزق الديمقراطية، فقد حضرت وشاركت خلال الأشهر الثلاثة الماضية في العديد من ورش العمل والمؤتمرات والندوات الدولية، التي امتدت من أفريقيا إلى أوروبا وآسيا، وجمعت نخبًا عربية وغربية متنوعة ذات اهتمام علمي وأكاديمي بالسؤال الديمقراطي.

وقد لمست عن كثب مدى حيرة الجميع أمام الأسئلة الصعبة المطروحة حول الديمقراطية، وما إذا كانت بالفعل قد وصلت إلى طريق مسدود، وأين يكمن الخلل والقصور إن لم يكن الأمر كذلك، بالإضافة إلى التساؤل المستمر عن البدائل الممكنة للخيار الديمقراطي في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ العالم، وسط صعود الشعبوية وتعاظم نفوذها.

وفعلًا، دارت نقاشات مستفيضة عكست حالة الحيرة والقلق السائدة، ليس بسبب نقص المعرفة أو النظرية حول الديمقراطية وحلولها، وإنما أيضًا نتيجة تراجع مساحة العقلانية والوعي الديمقراطي، وهيمنة التفاهة والسطحية والشعبوية على العديد من التجارب الديمقراطية اليوم.

علاوة على ذلك، يبرز الفعل المضاد بقوة، كما هو الحال في بعض البلدان الأفريقية التي شهدت العديد من الانقلابات العسكرية، التي اتخذت من إصلاح ما أفسدته الديمقراطية في هذه المجتمعات مبررًا لوجودها واستمرارها. ولا تزال هناك الكثير والكثير من الأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية.

ومن بين هذه الأسئلة التي بدأت تتبلور، ما هي العلاقة بين الديمقراطية والتنمية؟ وهل هي علاقة عكسية أم طردية؟ وذلك في ظل صعود النموذج الصيني، الذي بات يشكل لغزًا محيرًا للكثيرين إزاء هذه التجربة الفريدة التي استطاعت أن تحقق قدرًا هائلاً من التنمية والتقدم في ظل سلطة الحزب الواحد والزعيم الأوحد أيضًا، وهي تجربة تستدعي مزيدًا من الدراسة والبحث، خاصة فيما يتعلق بتجربة ديمقراطية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.

فالديمقراطية اليوم بنسختها الليبرالية الغربية، ربما تواجه تحديًا حقيقيًا يتعلق بمدى فشل الفلسفة الليبرالية. ولكن في المقابل، هناك مجتمعات أخرى لم تعرف طعم الديمقراطية بعد، ولم تتح لها الفرصة لتجربتها أو تحقيق أي شيء ولو بسيط منها، فكيف لها أن تشكل رؤية واضحة عن هذه الديمقراطية؟

هذا هو حال معظم دول العالمين العربي والإسلامي، اللذين يمتلكان قدرًا من الجذور الفلسفية الديمقراطية، أو ما يسمى "شورى أهل الحل والعقد"، والتي بدأت بعض الآراء تعتبرها خيارًا مناسبًا للسياق الثقافي العربي. وهذا يستدعي نقاشًا مستفيضًا حول آليات هذه البذرة التي لم يتم العمل عليها وتطويرها حتى الآن، وظلت مجرد أفكار متناثرة لم يتم البناء عليها وتطويرها حتى تملك قدرة تفسيرية أكبر لمضمون الفلسفة السياسية في الإسلام.

بشكل عام، الديمقراطية، شأنها شأن جميع الأفكار البشرية السياسية، هي أفكار تجريبية اجتهادية، وليست قوالب جامدة مقدسة غير قابلة للنقاش والتغيير.

وهي واحدة من الأفكار التي قد تحتاج مجتمعات اليوم إلى إعادة النظر فيها من زاوية البدائل والسياقات الثقافية المختلفة، وكيفية إعادة إنتاج نماذج ديمقراطية تتناسب مع كل سياق ثقافي، بحيث ينتج كل سياق ديمقراطيته الخاصة به. مما قد يدفع البعض إلى القول بأن ديمقراطية الحزب الشيوعي الصيني هي ديمقراطية تناسب السياق الثقافي الصيني، أو أن ديمقراطية ولاية الفقيه في إيران هي النموذج الذي يناسبهم وهكذا. وهذا قد يحتم على كل سياق ثقافي أن ينتج تجربته الديمقراطية الخاصة به.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة